Monday, August 10, 2009

فول ... سمك ... جبنة بالبطيخ

فول ... سمك ... جبنة بالبطيخ



تستيقظ فجراً نازعاً نفسك من سريرك المريح والناعم كريش النعام – بالنسبة لك على الأقل- , وتقاوم نعاساً يغلبك بينما جسدك يستمتع بنسمات الهواء الباردة التي لا يحلو لها التواجد إلا فجراً , والهمس يتردد في عقلك "ما تنام يا عم, دانتا راجل شقيان" ... هذا الشيطان ماهرُ بحق, أعتقد أن دراسته الأكاديمية تعدت دكتوراة "جهنم وبئس المصير" ...


شجعت نفسي بأن اليوم الجمعة أجازة, مما يعني أن أمامي مزيد من النوم عندما أعود، قمت وتوضأت, ضاحكا في سري بصوت عالٍ, وأنا أتخيل إبليس الكبير مستلما شيطاني ومعلقه على الفلكة عقابا له على فشله في إغوائي ... أسرعت بالتوجه إلى المسجد قبل أن يوسوس ذاك الجهنمي بالمزيد في رأسي, وصلت إلى المسجد وصليت, ثم خرجت متوجها إلى المنزل ...


يا سلااااااااااااااام, نسمات هواء الفجر تدغدغ رئتي اللتان تستنشقان غبار الحر بالنهار, وترجو نسمة باردة في عز الصيف ... زفرت الهواء, ثم شهيق أعمق ... يااااااااه, الواحد فاق.


وإليك قاعدة من أهم قواعد الحياة, إذا استيقظ المصري في الصباح, وأحس بالانتعاش والاستفواش (مع إني مش عارف معناها), فإن معدته "بتحن عليه", وتبدأ أسود بطنه تزأر (العصافير دي كانت زمان أيام الرقة والاتيكيت) ... فماذا يفعل؟ إنها مشكلة؟ قد "يلهف" فيها دراع حد ولا حاجة ... لذا فإنه يأخذ نفسا متوسط الحجم, ويستجمع حكمته التي استمدها من "جا – عا – ن" رع, كبير فراعنة المفجوعين, وممارسا تقاليد اليوجا البلدي للحفاظ على أعصابه ... ثم .... يصرخ كالمجنون و"ياخدها جري" على عم فوزي بتاع الفول.


طبعا بما أني أتميز بأعصاب صلبة تضاهي المكرونة الأسباجيتي في قوتها, فقد تجنبت موضوع الصراخ, مفضلا توفير مجهودي لطبق الفول المرحوم ...


توجهت إلى هناك بكل لهفة, وفي الطريق قابلت بعض الأصدقاء القدامي وزملاء الطفولة متوجهين لنفس الهدف، وهذا إن دل فإنما يدل على تأثير عم فوزي الاجتماعي وزيادة روابط المحبة بين أعضاء المجتمع، وكان من الممكن أن يشتعل ابن خلدون غيظا –لولا اتكاله من فترة- من هذا المنهج الجديد الناجح, الذي وصل إلى درجة تكوين علاقات صداقة من أمام عربية الفول، وهؤلاء قد تقابلهم في المواصلات أو الشارع فيأخذك بالأحضان، مما يدفع زوجتك إلى التساؤل :
- مين ده ؟
-أبدا ده زميل عربية فول ... من الناس اللي فطرت معانا قبل حرب أكتوبر على طول
أو قد تحكي لابنك عن أحد أعضاء مجلس الشعب قائلا :
- يابني ... أنا وهو كنا بناكل من فحلة بصل واحدة عند عمك رجب ... بس هوه كان بياكل تشكلس بعد الفطار

المهم أننا وصلنا إلى عربية الفول, كنا أقرب إلى فلول التتار أو الزاحفين من المجاعات إلى الخيرات ... بدأ كل واحد يطلب مائدته الخاصة من الأطباق, وبخبرتي المتواضعة توجهت إلى عم فوزي مباشرة, الراجل الكبير, ثم رصصت قائمة أحلامي :
- عمنا ... طبق فول كبير بالزيت الحار, وطبق بيض بالطحينة وعليه لمونة, فحلتين بصل , قرن فلفل و ...
- وطبق بليلة و رغيفين ... عارف ... انت تؤمر

رد عم فوزي, ثم تركني منتشياً بسحره وأسرع يعد الوليمة ... كم هو رائع هذا الرجل, لا يمكن أن تتخيل كيف يحفظ كل شخص باسمه ووجبته وملحه بل ورقمه القومي أيضاً ... فنان فعلا, بل هو فنان مبدع, يكفي أن تراقبه وهو يحرك يده في الهواء فارغة, ثم ... هوب ... في اللحظة التالية تجد البصل والخبز والليمون يخرج من يده نزولا على موائد زبائنه, ثم يحرك المغرفة ببراعة ليضع لك الفول الساخن بسرعة لا يستوعبها عقلك المسكين الجائع, حتى ليخيل إليك أنه ساحر محترف يكاد ينافس "كوبر فيلد" في نفس الحارة ...

- اتفضل يا ريس ... خدمة خمس نجوم

انتزعني صوت عم فوزي وأنا أتابع الأطباق تهبط أمامي ... سال لعابي، أمسكت رغيف الخبز وقطعته بلا رحمة ... رددت "نويت الطحن في هذا الصحن"، ثم سميت, وقرأت الدعاء على روح الأطباق شهيدة المائدة ... وانقضضت لأضع النهاية ... نهاية الملحمة الفولية ...

------------------------

يوم الجمعة ويوم الأجازة ... ماذا تتوقع أن يكون على الغداء ؟؟
أخذت أتشمم الهواء في تلذذ كمدمن وجد "كيفه" في هذه الرائحة ... وبدأت بخبرتي أكون قائمة الغداء : سمك بلطي, رز بتقلية, طماطم بثوم تكفي لقلب رائحة فمك إلى ترعة مريوطية جديدة ...

القاعدة الثانية في هذه الحياة ... أن المصري يحب السمك بشدة, بل يعشقها عشقه لتراب مصر ...
وتقول الأساطير أن المصري القديم كان يستخدم السمك في جميع مناحي حياته, فكنت تجد لدى الفراعنة سمك مشوي ومقلي ومدخن وببهارات, ومربى سمك, وعصير سمك, وسمك مشوي على السمك ومدهون بزيت السمك مضافاً إليه توابل سمكية مميزة ... ودخل السمك في الصناعة ليشمل ليفة سمك وأنتريه بالسمك وصندل سمك بالشوك ...
بل وصل الأمر بالبعض إلى تبني الأسماك الصغيرة وتربيتها، لكن بالطبع كانت النهاية دائما مأساوية، لتجد كل أسبوع في جريدة "حا – وا – دث" خبرا عن أب مصري لم يستطع مقاومة دلال سمكه الصغير فأكله كله حتى آخر بسارياية ...

وها أنا من جديد أمام مائدة أخرى تحف بالبلطي ... تحف به حتى النخاع، حتى خيل إلي أني جالس أمام نهر النيل وقد تم شوي كل ما يحويه من "بلاطي" ...
انتزعت الرأس بسرعة، ثم أخذت أمصمصها، لم أتوقف حتى فوجئت بأذن أخي وقد عبرت إلى فمي من الناحية الأخرى, وقتها أدركت كم كان شفطي شديدا ... ألقيت بواقي الرأس التي تحولت إلى ما يشبه العجة, ثم أمسكت بجسم السمكة المرمري, ولمعت عيناي في وهج طفولي, وبدأت الفتك المبين ... أكلت اللحم ومصمصت المصاميص, وبين فينة وأخرى أضرب الجاروف في طبق الرز لألقيه في جوفي متبوعاً بملعقة طماطم، حتى أضحت معدتي تنافس الفجوة السوداء اتساعاً، بل أزيد بمترين تلاتة !!

تراجعت بظهري مستندا على أقرب حائط, ثم أحسست بها, هاهي تقترب ... حسنا ... انطلقي ... برااااااءءءءءءءءء ... تكريعة تكاد تنافس انفجار قنبلة هيروشيما المدوي، مصحوبة برائحة الثوم والسمك التي انطلقت بقوة, لتحيل الغرفة إلى ما ينافس حقل تجارب ملئ بالفئران المتحللة في صبغة اليود ... أحسست بالراحة بعدها, وكأني تخلصت من بالون هوائي كان في بطني، ربت على كرشي بحنية, البتاع ده فعلا متربي على الغالي ... دقيقتين ووصل الشاي بالنعناع, مفيش أجدع من حبسة بعد فرتكة، هذا دائما هو شعاري المفضل .

--------------------------------

كخبير وصل إلى تلك المرحلة من الخبرة المخبرة بالخبرات، دعني أوضح لك قاعدة جديدة، لما تدبها في يوم فول وسمك، اعلم أن معدة المصري لها حدود، لذا أنصحك بالتخفيف في العشاء ... وبما إن المصريين أسياد الافتكاسات، فستجد لديهم قائمة بأطعمة خفيفة ذات مذاق رائع ...

خد عندك مثلا: حلاوة طحينية بالجبنة، تخيل !! التضاد في طعم واحد، لتحس بحدوقة الحلو أو حلاوة الحادق، لكنها ليست الوجبة المفضلة عند الجميع ... هناك أيضا الويكة البلدي، منتهى طعامة الطعامة المطعمة بالتطعيم الطعم، حاجة سخنة مطبوخة لذيذة، لكنها أيضاً ليست بالوجبة المفضلة لمن لا يحبون الطبيخ على العشاء ...

هنا، إليك الحل المثالي الذي لا يختلف عليه اتنين مصريين, وإذا وجدت أحد المختلفين, فهو إما خائن أو عميل أو لسه مجربش وقفة طابور العيش ... وجبة الأفراح والليالي الملاح والمسكرة ... جبنة بالبطيخ ... اممممممم

وقد كان، بعد صلاة العشاء أحضر أبي "جوزين بطيخ" من البائع بعد أن تأكد أنهم "مش قرع" ... بدأ أبي يقطع البطيخة باحتراف ينم عن خبرة بطيخية محترمة، وهو يحكي كيف أخذ البائع يحلف له أغلظ الأيمان أن هذا البطيخ مقطوف لسه طازة من أراضي "بطيخوستان" المقدسة, وأنه لولا غلاوته – أبي لا البطيخ – ما كان باع له البطيخة بنصف الثمن ... راجل فهلوي طحن

وبعد دقائق, وجدت نفسي جالساً أمام طبق الجبنة الاسطمبولي وبجانبه طبق يحوي قطعاً زمردية من بطيخ أحمر نقي يخطف النظر ويلحس العقل ويخليها ليلة فل ... بخبرتي المتواضعة كنت أنهيت على الوجبة ولم أترك سوى بعض العظام ... أقصد البذور ... التي ستتحول بعض قليل إلى بعض اللب التسالي للفرفشة في الوقت بدل الضايع الذي يسبق القلبان على السرير ...

لحظات وسمعت صوت "علي فوشيا" منادياً بصوته الصداح المعروف لدى الجميع، رددت عليه ثم نزلت لنتمشى قليلا ... بعد فترة بادرني قائلا :
- بقولك إيه ... متيجي نضربلنا اتنين قصب
- قصب ؟ ... ونعم الاقتراح .. بس بلاش نتقل عشان منسكرش
توجهنا إلى عزوز بتاع القصب, وطلبنا اتنين قصب، وأستغل الفرصة لأرسي قاعدة أخرى هامة، لم ولن ولا يوجد ما يروي ظمأ المصري مثل كوباية قصب متلج، حتى أن الأساطير إياها تقول أن رمسيس الثاني كان لا يستطيع إدارة شئون الدولة قبل أن "يضربها واحد قصب" ... بل وامتد الأمر إلى مينا ومحمد علي باشا و ... احم ... بعض السادة المسئولين ..

نظرت إلى كوب القصب، ثم ضربته على "بق" واحد، صدقني ... لا توجد متعة تضاهي تلك الحركة ...

خبطت على كرشي في تلذذ ... ثم التفت إلى "علي" :
- بقولك ياض يا فوشيا ... الواحد حاسس إن معدته فضيت ... متيجي نتعشى !!

وهنا ... لم يعد هناك مكان للمزيد من القواعد ...

أي قواعد ...

------------------------

تمت ... بالجبنة



3 comments:

  1. ده حضرتك ذكرت وصف لكل أكلة يجوع بلد بحالها ..
    بقالى يومين غطسانة فى المدونتين .. مش عارفة أوصل لآخرهم ..
    بجد حاجة رائعة جداً .. و أسلوب حضرتك فى الكتابة ممتاز فعلاً ..

    دمت بخير :)

    ReplyDelete
  2. انا اول مرة اجي هنا وخلتوني جعت والله بجد
    نفسي دلوقتي في اكلة سمك بلطي وبالليل جبنة بالبطيخ ^_^
    ماشاء الله اسلوب حضرتك كما عهدناه فوق الرائع
    منتظرين الجديد والجديد

    ReplyDelete
  3. :)))))))))

    برنس وربنا

    ReplyDelete

كومنت ع التهييسة