Sunday, August 30, 2009

أمنيات ... نيولووك

" أمنيات نيولووك "
--------------------------

حمدي أفندي ... ذاك الرجل البسيط ... البسيط جدا ... بسيط لدرجة أن البساطة تبرأت منه ووضعته في خانة "أبسط من البساطة" ... في أواخر الأربعينات, أو قبل الخمسينات بشوية فكة ... يرتدي نظارات "قعر كوباية" أصبحت جزءا لا يتجزأ من وجهه ... وهو – رغم بساطته – متزوج من سيدة تعود أصولها إلى عائلة هولاكو, الفرع الدموي منها ... ويملك "أورطة عيال" تملأ عليه حياته صراخاً وعويلاً ...

يبدأ صباحه بالاستيقاظ المبكر صباحا, للحاق بعمله الحكومي العتيق, ويجلس على مكتبه كأي موظف تقليدي يحل كلماته المتقاطعة التقليدي ويتناول كوب شايه التقليدي بينما يحرص أشد الحرص ألا يخرج عن هذه التقليدية بشبر واحد ... ثم يعود إلى منزله ليدأ حراً جديدة في شقته يحاول فيها أن ينال لقمة ما من بين هذه الأفواه وأن يحظى بمرتبة يرمي عليها جتته ليبدأ في اليوم التالي نفس المشوار ... ونفس الحياة ... ونفس التقليدية ... حاجة آخر ملل!!

-------------

وفي أحد أيام عودته من المنزل, وبينما يقف على المحطة مستسلما ... وصل إلى مسامعه صوت ينادي :
"وعندك الفانوس السحري ... الفانوس الذري ... الفيرجين الجديد من فوانيس المرحوم علاء الدين ... خدلك واحد وحققلك تلات أمنيات ... قرب يافندي ... قربي يا مدام"

اقترب حمدي في حذر من الرجل ... ثم سأله : بكام البتاع ده يا كابتن ؟
التفت له الرجل في غضب, وبصله من فوق لتحت مرددا :
كابتن ؟ ... شايفني واقف بجيب إجوان في أبو تريكة ؟
أبو تريكة مين وإجوان إيه ؟؟؟ ... بقولك بكام البتاع ده يا جدع ؟
أعاد البائع نظرته المسوحية الشاملة ... ثم رد بأنفة :
امشي يا ريس ... مببيعش حاجة للناس البيئة ...

اتسعت عينا حمدي، وزفر وزغر، وغلى رأسه واحمر كأفلام توم وجيري ... ثم أخرج موسا من بين طيات لسانه كأجدع بلطجي, وانقض على الرجل واضعا الموس على رقبته وهو يهتف :
عاملي فيه ابن خواجة ؟ طب إيه رأيك هاخد واحد من البتاتيع دي ... ومن غير فلوس كمان ...
ظل ذاك الرجل محافظا على كبريائه بالعافية، وريالة حمدي تغرق وجهه فتحيله ترعة مريوطية جديدة، ثم ناوله واحدا من الفوانيس مردداً:
يحرق، يلعن، يودي، يجيب ... عشان كده قلت عالم بيئة ... ده إيه القرف اللي الواحد عايش فيه ده ... خد واحد اطفحه أهوه ...

تناول حمدي الفانوس بعنف, ثم دفع بالرجل بعيدا ... وفجأة لمحت عينه الخبيرة لوحة أتوبيس 87 بشرطة, فانطلق كالمجنون متجاوزا كل الحواجز البشرية حتى صعد الاتوبيس ويداه تقبض على الفانوس في اهتمام واضح يذكرك بـ "جولم" في "لورد أوف ذا رينجز"

وصل حامد إلى البلوك الذي يقطنه, صعد مسرعا, ثم وقف أمام باب شقته, تلفت يمنة ويساراً ليتأكد من خلو الطريق, فتح الباب وما إن دخل حتى ...
"بابا جههههههههههههههه"
فوجئ بأبناءه الخمسة يقفزون عليه جميعا ما بين حضن وشكوى وعضة وطلب, فما كان منه إلا أن تناولهم بالشلاليط واللكميات واحدا بعد الآخر مرددا :
غور ياض انت وهوه من هنا ... دانتو خلفة هَنَا"

رفع رقبته كديك ينوي الصياح, ثم صرخ منادياً زوجته بصوت يشبه سرينة الإسعاف :
انتي يا ولية ... خدي ولادك دول من هنا, بدل ما أروحيك بيهم على بيت أبوكي عدل"
فجأة لمح تلك الكتلة التي تزوجها قادمة من المطبخ مرتدية إيشارب عتيق من أيام أحمس وتضع بارفان "إف يع إتفو" متناولة في يدها سكينا حاداً وهي تزمجر :
في إيه يا جدع انت ... صوتك عالي كده ليه ؟
ما إن لمح حمدي أفندي السكين حتى ازدرد ريقه في صعوبة وهو يتمتم :
أبدا .. مفيش ... كنت بقول فين قمر حياتي ؟
رد ابنه السفروتة في سرعة : لأ يا ماما, ده كان بيقول ....
أسكته حمدي بشلوت محترم تلته صفعة صاروخية وهو يصرخ :
اسكت يا قليل الحيا ... يعني ابوك بيكدب ؟؟؟ .... قلة أدب صحيح
ثم التفت إلى جودزيلا ... احم ... أقصد زوجته وسألها :
عاملة إيه على الغدا النهاردة ؟
ملوخية
أورديحي ؟
أكيد ... هوه انت جبت حاجة .. اطبخي يا جارية كلف يا ...
خلاص خلاص ... جتنا ملوخية في حظنا اللوبيا

-------------

دخل حامد أفندي غرفة النوم، وأوصد بابها خلفه ... وهو يردد في نفسه "اصبر يا واد يا حمدي، كلها شوية وهتغرق في طبق فتة باللحمة والبط وتعيش في عز ونغنغة"
همّ حمدي أفندي بدعك المصباح كما يفعل علاء الدين, لكنه فوجئ بلوحة أرقام الكترونية معلق بجانبها لوحة إرشادات تقول
( خدمة الفانوس السحري .... إذا أردت طلب عفريت المصباح من فضلك اضغط على 333, أما لو كنت ترغب بترك رسالة للأخ العفريت فاضغط على 555, وفي حالة وجود شكاوى نرجو مراسلتنا على أرض العجايب عمارة الواد الجني شقة سالب أربعين, أو على موقعنا دابيو دابيو دابيو عفاريت دوت جن, مع تمنياتنا بأمنيات متعفرتة )

أسرع حمدي يضغط "التلات تلاتات" في لهفة، ولكنه فوجئ بصوت يرد :
الأخ العفريت مش موجود دلوقتي, بس تقدر تبعتله مني كول بصوتك بعد سماع صوت الصريخ
أحس حمدي بالإحباط, لكنه قرر المحاولة مرة ثانية وثالثة .... وبعد مرور ثلاث ساعات من المحاولات والصريخ ... رد عليه صوت آخر :
العفريت حضر ... برجاء وضع الفانوس على الأرض والرجوع خطوتين للخلف مع ارتداء حزام الأمان وقفل السوستة ..
تراجع حمدي للوراء بعدما وضع الفانوس على الأرض, فبدأ دخان ملون بالتصاعد تصاحبه موسيقى راب وأضواء الديسكو ... وفجأة, ظهر من بين الدخان عفريت يرتدي بدلة لوكس ونضارة شمس بوليس ...

صرخ حمدي بفرحة : عفــ ... عفــ .. عفريت بيه ؟؟!!!!
نظر له العفريت نظرة لا مبالاة, ثم أخذ يلف بعينيه في المكان مرددا :
ياي ... إيه المستوى البيئة ده ... يخرم جيبك يا فنكش, قولتلك متبعينيش للناس الموبوءة دي
كان حمدي مسبهلا بما يراه, فلم يبد أنه قد سمع تلك الكلمات, ثم صاح :
يا عم العفريت ... ممكن تحققلي اللي أنا عايزه ؟
في قرف رد عليه العفريت :
ماشي ماشي ... خلينا نخلص من الليلة القرف دي
ثم أخرج بضعة أوراق من جيبه ناولها لحمدي أفندي وهو يقول :
اكتب في الورقة دي اسمك، وسنك، ومرتبك، وعندك كام عيل، وكام عربية, وكام واسطة، وكام ...
حيلك حيلك حيلك ... إيه ده كله ؟ ... انا موظف غلبان بـ 180 جنيه و 24 قرش وبدل شحاتة في الشهر
اتسعت عينا العفريت في دهشة وهو يرد :
كمان ... دانتا في الضياع، حالتك أوت أوف سيرفيس .. سوري يا باشا ... أنا مشغول ومش فاضي لشغل العيال ده
أخرج حمدي الموس المستخبي في غضب صائحاً :
شكلكو كده شلة نصابين وقطاع طرق ... أنا هعرف آخد حقي تالت ومتلت منكو

فجأة، لف العفريت حول نفسه خالعا بدلته لتظهر فانلته الحمالات التي يبظ منها الشعر, وأخرج مطواة قرن غزال تصنيع شبرا مشوحا بها وهو يردد:
لأ ... اوعى تفتكر إن احنا خيخة, داحنا صيع, احنا اللي دهنا الهوا زبدة بلدي, دانا أصيع واحد في عزبة شَكَل يا ريس, أسنجفك إنت وعشرة زيك
أدرك حمدي أنه الخسران في النهاية, وأنه سيضيع على نفسه فرصة الأحلام, فأخذ يهدئ من روع العفريت ويطيب خاطره بكلمتين ... ويبين له إن الفقر ابن ستين في سبعين هوه اللي خلاه عصبي كده ...

استعاد العفريت هدوئه ووقاره, ومارس بعض يوجا الريلاكسيشن عائدا إلى بدلته الفخمة مقدما الأوراق من جديد لحمدي قائلا :
طب اتنيل املى الاستمارة دي .. ده لو لسه فاكر اسمك
بدأ حامد في ملئ الاستمارة التي لا تقل بيناتها المطلوبة عن البيانات المطلوبة من طيار جوي سيشترك في وحدات الاستطلاع بزيمبابوي, وفي آخر الأوراق وجد خانة الأمنيات بثلاث أماكن فارغة, ليضع فيها ما يتمناه ...

----------------

انتهى حمدي من ملئ الاستمارة وقدمها إلى العفريت, فتناولها بقرف, وقرأها, ثم ردد :
أمنيتك الأولى شقة واسعة ... سليم ؟
سليم
يعني يا أذكى أخواتك أنا لو اعرف أجيب شقق كنت لقيتني لسه عايش في الفانوس الكحيتي ده, ده أنا لسه ما استلمتش شقتي من الجهاز ... جزاءاً لغبائك المزمن، الأمنية دي اتحرقت عليك
فتح حمدي أفندي فمه مذهولا والعفريت يتابع :
الأمنية التانية, عربية آخر موديل ... هوبا .. ألف مبروك يا ريس, عربيتك راكنة تحت البيت
لم يصدق حمدي نفسه, وطار على الشباك ليجد أمام البيت عربية كارو مارو "زق معايا", وحمار حصاوي فشلة يستلزم إطعامه جزيرة كاملة من البرسيم ...
التفت حامد في صدمة وهو يقول :
بس يافندم ... العربية ...
خلاص خلاص ... مش لازم تشكرني يابني ... ده شغلي برضه
ثم اعتدل مستطرداً:
الأمنية الأخيرة ... تتجوز أجمل واحدة في الدنيا ... ممم الموضوع صعب حبتين تلاتة
ثم اقترب من أذن حمدي هامسا :
بس أنا ممكن أريحك من الولية اللي معاك دي, خد المسدس ده ... وبالليل وهيه نايمة جنبك ... طاااخ ... ولا من شاف ولا من دري
ثم اعتدل في سرعة مربتا على كتفه قائلا :
شكرا على تعاونك معانا يا حمدي أفندي ... مصر كلها فرحانة بيك

فجأة, تلاشى العفريت مخلفاً وراءه بعض الدخان الملون وموسيقى الراب إياها ... تاركاً حمدي في حالة ذهول أشبه ببطة اكتشفت أن أمها ديك كبير.
استفاق حمدي على صوت ازيز متصل يخرج من الفانوس, تلاه خروج ورقة صغيرة, التقطها حمدي ليجد مكتوبا فيها :
( شكرا لاستخدامك خدمة أمنيات نيولوك, أنت مدين لنا بمبلغ 50 ألف جنيه نظير خدمتنا المتميزة, سيتم إرسال مندوبنا لتحصيل المبلغ أو الحجز على ممتلكاتك وبيعك في مزاد علني, مع تحيات الفانوس السحري للخدمات )
كان هذا أكثر مما يحتمله حمدي أفندي ... الراجل اللي أبسط من البساطة ... لذا, فقد رفع المسدس إلى فمه و ..... ضغط الزناد

-----------------------

دخل العفريت على غرفة مديره في مكتب العمليات وهو يردد :
بقولك باشا ... ياريت نلحق نبعت الورق ده للمسئولين عشان ينبسطوا
رد المدير في بهجة :
انت عملتلنا أوردر جديد ؟
رد العفريت في فخر :
أكيد يا ريس ... الراجل دلوقتي زمانه مشرف في جهنم
دانتا عفريت ياض يا عفريت
عيب يا باشا ... دانا تربيتك
لأ ... انت تربية أباليس

وارتفعت ضحكاتهما عالياً .....


- تمت -


Monday, August 10, 2009

فول ... سمك ... جبنة بالبطيخ

فول ... سمك ... جبنة بالبطيخ



تستيقظ فجراً نازعاً نفسك من سريرك المريح والناعم كريش النعام – بالنسبة لك على الأقل- , وتقاوم نعاساً يغلبك بينما جسدك يستمتع بنسمات الهواء الباردة التي لا يحلو لها التواجد إلا فجراً , والهمس يتردد في عقلك "ما تنام يا عم, دانتا راجل شقيان" ... هذا الشيطان ماهرُ بحق, أعتقد أن دراسته الأكاديمية تعدت دكتوراة "جهنم وبئس المصير" ...


شجعت نفسي بأن اليوم الجمعة أجازة, مما يعني أن أمامي مزيد من النوم عندما أعود، قمت وتوضأت, ضاحكا في سري بصوت عالٍ, وأنا أتخيل إبليس الكبير مستلما شيطاني ومعلقه على الفلكة عقابا له على فشله في إغوائي ... أسرعت بالتوجه إلى المسجد قبل أن يوسوس ذاك الجهنمي بالمزيد في رأسي, وصلت إلى المسجد وصليت, ثم خرجت متوجها إلى المنزل ...


يا سلااااااااااااااام, نسمات هواء الفجر تدغدغ رئتي اللتان تستنشقان غبار الحر بالنهار, وترجو نسمة باردة في عز الصيف ... زفرت الهواء, ثم شهيق أعمق ... يااااااااه, الواحد فاق.


وإليك قاعدة من أهم قواعد الحياة, إذا استيقظ المصري في الصباح, وأحس بالانتعاش والاستفواش (مع إني مش عارف معناها), فإن معدته "بتحن عليه", وتبدأ أسود بطنه تزأر (العصافير دي كانت زمان أيام الرقة والاتيكيت) ... فماذا يفعل؟ إنها مشكلة؟ قد "يلهف" فيها دراع حد ولا حاجة ... لذا فإنه يأخذ نفسا متوسط الحجم, ويستجمع حكمته التي استمدها من "جا – عا – ن" رع, كبير فراعنة المفجوعين, وممارسا تقاليد اليوجا البلدي للحفاظ على أعصابه ... ثم .... يصرخ كالمجنون و"ياخدها جري" على عم فوزي بتاع الفول.


طبعا بما أني أتميز بأعصاب صلبة تضاهي المكرونة الأسباجيتي في قوتها, فقد تجنبت موضوع الصراخ, مفضلا توفير مجهودي لطبق الفول المرحوم ...


توجهت إلى هناك بكل لهفة, وفي الطريق قابلت بعض الأصدقاء القدامي وزملاء الطفولة متوجهين لنفس الهدف، وهذا إن دل فإنما يدل على تأثير عم فوزي الاجتماعي وزيادة روابط المحبة بين أعضاء المجتمع، وكان من الممكن أن يشتعل ابن خلدون غيظا –لولا اتكاله من فترة- من هذا المنهج الجديد الناجح, الذي وصل إلى درجة تكوين علاقات صداقة من أمام عربية الفول، وهؤلاء قد تقابلهم في المواصلات أو الشارع فيأخذك بالأحضان، مما يدفع زوجتك إلى التساؤل :
- مين ده ؟
-أبدا ده زميل عربية فول ... من الناس اللي فطرت معانا قبل حرب أكتوبر على طول
أو قد تحكي لابنك عن أحد أعضاء مجلس الشعب قائلا :
- يابني ... أنا وهو كنا بناكل من فحلة بصل واحدة عند عمك رجب ... بس هوه كان بياكل تشكلس بعد الفطار

المهم أننا وصلنا إلى عربية الفول, كنا أقرب إلى فلول التتار أو الزاحفين من المجاعات إلى الخيرات ... بدأ كل واحد يطلب مائدته الخاصة من الأطباق, وبخبرتي المتواضعة توجهت إلى عم فوزي مباشرة, الراجل الكبير, ثم رصصت قائمة أحلامي :
- عمنا ... طبق فول كبير بالزيت الحار, وطبق بيض بالطحينة وعليه لمونة, فحلتين بصل , قرن فلفل و ...
- وطبق بليلة و رغيفين ... عارف ... انت تؤمر

رد عم فوزي, ثم تركني منتشياً بسحره وأسرع يعد الوليمة ... كم هو رائع هذا الرجل, لا يمكن أن تتخيل كيف يحفظ كل شخص باسمه ووجبته وملحه بل ورقمه القومي أيضاً ... فنان فعلا, بل هو فنان مبدع, يكفي أن تراقبه وهو يحرك يده في الهواء فارغة, ثم ... هوب ... في اللحظة التالية تجد البصل والخبز والليمون يخرج من يده نزولا على موائد زبائنه, ثم يحرك المغرفة ببراعة ليضع لك الفول الساخن بسرعة لا يستوعبها عقلك المسكين الجائع, حتى ليخيل إليك أنه ساحر محترف يكاد ينافس "كوبر فيلد" في نفس الحارة ...

- اتفضل يا ريس ... خدمة خمس نجوم

انتزعني صوت عم فوزي وأنا أتابع الأطباق تهبط أمامي ... سال لعابي، أمسكت رغيف الخبز وقطعته بلا رحمة ... رددت "نويت الطحن في هذا الصحن"، ثم سميت, وقرأت الدعاء على روح الأطباق شهيدة المائدة ... وانقضضت لأضع النهاية ... نهاية الملحمة الفولية ...

------------------------

يوم الجمعة ويوم الأجازة ... ماذا تتوقع أن يكون على الغداء ؟؟
أخذت أتشمم الهواء في تلذذ كمدمن وجد "كيفه" في هذه الرائحة ... وبدأت بخبرتي أكون قائمة الغداء : سمك بلطي, رز بتقلية, طماطم بثوم تكفي لقلب رائحة فمك إلى ترعة مريوطية جديدة ...

القاعدة الثانية في هذه الحياة ... أن المصري يحب السمك بشدة, بل يعشقها عشقه لتراب مصر ...
وتقول الأساطير أن المصري القديم كان يستخدم السمك في جميع مناحي حياته, فكنت تجد لدى الفراعنة سمك مشوي ومقلي ومدخن وببهارات, ومربى سمك, وعصير سمك, وسمك مشوي على السمك ومدهون بزيت السمك مضافاً إليه توابل سمكية مميزة ... ودخل السمك في الصناعة ليشمل ليفة سمك وأنتريه بالسمك وصندل سمك بالشوك ...
بل وصل الأمر بالبعض إلى تبني الأسماك الصغيرة وتربيتها، لكن بالطبع كانت النهاية دائما مأساوية، لتجد كل أسبوع في جريدة "حا – وا – دث" خبرا عن أب مصري لم يستطع مقاومة دلال سمكه الصغير فأكله كله حتى آخر بسارياية ...

وها أنا من جديد أمام مائدة أخرى تحف بالبلطي ... تحف به حتى النخاع، حتى خيل إلي أني جالس أمام نهر النيل وقد تم شوي كل ما يحويه من "بلاطي" ...
انتزعت الرأس بسرعة، ثم أخذت أمصمصها، لم أتوقف حتى فوجئت بأذن أخي وقد عبرت إلى فمي من الناحية الأخرى, وقتها أدركت كم كان شفطي شديدا ... ألقيت بواقي الرأس التي تحولت إلى ما يشبه العجة, ثم أمسكت بجسم السمكة المرمري, ولمعت عيناي في وهج طفولي, وبدأت الفتك المبين ... أكلت اللحم ومصمصت المصاميص, وبين فينة وأخرى أضرب الجاروف في طبق الرز لألقيه في جوفي متبوعاً بملعقة طماطم، حتى أضحت معدتي تنافس الفجوة السوداء اتساعاً، بل أزيد بمترين تلاتة !!

تراجعت بظهري مستندا على أقرب حائط, ثم أحسست بها, هاهي تقترب ... حسنا ... انطلقي ... برااااااءءءءءءءءء ... تكريعة تكاد تنافس انفجار قنبلة هيروشيما المدوي، مصحوبة برائحة الثوم والسمك التي انطلقت بقوة, لتحيل الغرفة إلى ما ينافس حقل تجارب ملئ بالفئران المتحللة في صبغة اليود ... أحسست بالراحة بعدها, وكأني تخلصت من بالون هوائي كان في بطني، ربت على كرشي بحنية, البتاع ده فعلا متربي على الغالي ... دقيقتين ووصل الشاي بالنعناع, مفيش أجدع من حبسة بعد فرتكة، هذا دائما هو شعاري المفضل .

--------------------------------

كخبير وصل إلى تلك المرحلة من الخبرة المخبرة بالخبرات، دعني أوضح لك قاعدة جديدة، لما تدبها في يوم فول وسمك، اعلم أن معدة المصري لها حدود، لذا أنصحك بالتخفيف في العشاء ... وبما إن المصريين أسياد الافتكاسات، فستجد لديهم قائمة بأطعمة خفيفة ذات مذاق رائع ...

خد عندك مثلا: حلاوة طحينية بالجبنة، تخيل !! التضاد في طعم واحد، لتحس بحدوقة الحلو أو حلاوة الحادق، لكنها ليست الوجبة المفضلة عند الجميع ... هناك أيضا الويكة البلدي، منتهى طعامة الطعامة المطعمة بالتطعيم الطعم، حاجة سخنة مطبوخة لذيذة، لكنها أيضاً ليست بالوجبة المفضلة لمن لا يحبون الطبيخ على العشاء ...

هنا، إليك الحل المثالي الذي لا يختلف عليه اتنين مصريين, وإذا وجدت أحد المختلفين, فهو إما خائن أو عميل أو لسه مجربش وقفة طابور العيش ... وجبة الأفراح والليالي الملاح والمسكرة ... جبنة بالبطيخ ... اممممممم

وقد كان، بعد صلاة العشاء أحضر أبي "جوزين بطيخ" من البائع بعد أن تأكد أنهم "مش قرع" ... بدأ أبي يقطع البطيخة باحتراف ينم عن خبرة بطيخية محترمة، وهو يحكي كيف أخذ البائع يحلف له أغلظ الأيمان أن هذا البطيخ مقطوف لسه طازة من أراضي "بطيخوستان" المقدسة, وأنه لولا غلاوته – أبي لا البطيخ – ما كان باع له البطيخة بنصف الثمن ... راجل فهلوي طحن

وبعد دقائق, وجدت نفسي جالساً أمام طبق الجبنة الاسطمبولي وبجانبه طبق يحوي قطعاً زمردية من بطيخ أحمر نقي يخطف النظر ويلحس العقل ويخليها ليلة فل ... بخبرتي المتواضعة كنت أنهيت على الوجبة ولم أترك سوى بعض العظام ... أقصد البذور ... التي ستتحول بعض قليل إلى بعض اللب التسالي للفرفشة في الوقت بدل الضايع الذي يسبق القلبان على السرير ...

لحظات وسمعت صوت "علي فوشيا" منادياً بصوته الصداح المعروف لدى الجميع، رددت عليه ثم نزلت لنتمشى قليلا ... بعد فترة بادرني قائلا :
- بقولك إيه ... متيجي نضربلنا اتنين قصب
- قصب ؟ ... ونعم الاقتراح .. بس بلاش نتقل عشان منسكرش
توجهنا إلى عزوز بتاع القصب, وطلبنا اتنين قصب، وأستغل الفرصة لأرسي قاعدة أخرى هامة، لم ولن ولا يوجد ما يروي ظمأ المصري مثل كوباية قصب متلج، حتى أن الأساطير إياها تقول أن رمسيس الثاني كان لا يستطيع إدارة شئون الدولة قبل أن "يضربها واحد قصب" ... بل وامتد الأمر إلى مينا ومحمد علي باشا و ... احم ... بعض السادة المسئولين ..

نظرت إلى كوب القصب، ثم ضربته على "بق" واحد، صدقني ... لا توجد متعة تضاهي تلك الحركة ...

خبطت على كرشي في تلذذ ... ثم التفت إلى "علي" :
- بقولك ياض يا فوشيا ... الواحد حاسس إن معدته فضيت ... متيجي نتعشى !!

وهنا ... لم يعد هناك مكان للمزيد من القواعد ...

أي قواعد ...

------------------------

تمت ... بالجبنة