Sunday, November 16, 2008

أتــوبيس حبنــا

أتــوبيس حبنــا
------------


وقف كالعادة على رصيف المحطة , بهذه الهيئة المزرية المعتادة لموظف بلغ من العمر عتيا حتى كاد ينافس مومياء رمسيس الثاني, وبالجريدة تحت باطه ذي الرائحة المسممة مفتوحة على صفحة الكلمات المتقاطعة التي شاركته مربعاتها أفراحه وأتراحه, بينما يقبض بكلتا يديه على بطيخة عمره ليكون لحمها طعامه ذاك اليوم وبذرها لب تسليته في سهرته الأسبوعية على فيلم السهرة ...

أخذ يطالع الأفق في قلق, منتظرا الوصول, وأخيرا ... وصلت علبة السردين ... أقصد أتوبيس الهيئة ... أخذ صاحبنا نفسا عميقا لم يفعله حتى عندما حاول اجتياز خط بارليف في سيناء, تراجع خطوتين للوراء استعدادا للانطلاق, دارى البطيخة جيدا فولاد الحرام أكثر من الرز, ضبط ساعته الستوب ووتش, فهو ينوي تحطيم رقم قياسي جديد ... يتنقل ببصره بين زملاء المحطة في الصف الأول من هذه الملحمة, الكل متحفز, ذاك الرجل بلدياتنا يحمل شوالا يزن على الأقل 50 كيلو وتتحرك فيه أشياء مجهولة المصدر, بالتأكيد سيتجنبه في مرحلة الصعود, فأخر شخص زاحمه بنفس المواصفات اتضح أنه يحمل شوال كابوريا نالت نصيبها منه, حتى أنه اكتشف إحداها قابعة في ملابسه الداخلية عندما عاد إلى منزله ... نقل نظره إلى أحد طلاب الجامعة ذوي الحجم الثقيل "جسم حيوان, هوه بيلعب حديد ولا بياكله" تمتم أخونا بالكلمات في حنق مقررا عدم الخوض مع هذا الأخير أيضا ... تلفت مرة أخرى, الست التي تحمل طشت الكرشة, وستزاحمك بالتأكيد بإمكانياتها التي وفرتها لها حلل المحشي التي كانوا يرضعونها لها منذ الصغر, فرصته معدومة هناك بالتأكيد ...

الأتوبيس يقترب أكثر, أحد الزملاء تطوع بأن يكون هو من يطلق علامة البدء, يجب أن يجد ضالته بسرعة ... وهناك لمح ذلك العجوز ذا العكاز والذي يهتز بسرعة تنافس طبق جيلي فوق ترابيزة برجل واحدة في زلزال 92, ابتسم تلك الابتسامة السادية, ووجه كل حواسه في ذلك الاتجاه ... عيناه معلقتان بحكم الإطلاق, الذي أخرج لتر بيبسي وقربعه على بق واحد و .......... أأأأأأأأأأءءءءءء ...... تكريعة أسمعت جمعية الصم في جنوب الهند, و .... انطلق الجميع ...

انطلق بطلنا بقوة, بقوة شديدة لا تتناسب مع عمره, لقد مارس تلك الملحمة لمدة ثلاثين عاما كانت كافية لإكسابه اللياقة الكافية ... زاد من سرعته, هو يعلم أن هناك غيره من الأبطال, الأخ بلدياتنا رفع الشوال على كتفه وأخذ يقفز قفزات عملاقة حتى كاد يصل إلى القمر ... الست بتاعة الكرشة, اللئيمة, زودت طشتها بمحرك هيدروليكي قوة 20 جحش, كما تعلم فالحاجة أم الاختراع ... أحس بالنخوة تجري في عروقه, أيسبقه كل هؤلاء وهو صاحب الأرقام القياسية المحطمة والمكسورة واللي لسه في المستشفى ؟ ... زاد من سرعته, سبقهم جميعا, ابتسامة نصر, الآن يجب عليه التوجه إلى الباب بخطة 2-3-1 مارا بذلك العجوز كهدف نهائي و .... لقد وصل, صعد الباب في نفس التوقيت الذي مد الرجل العجوز يده إلى المقبض الحديدي, في نفس الوقت الذي وصل فيه الجميع إلى الباب, في نفس الوقت الذي تحس فيه أنها نهاية العالم ............... وفي نفس الوقت الذي لا يزال الأتوبيس يسير فيه بلا توقف,"سواق غتت"

نظر صاحبنا إلى العجوز, وإلى يده المعلقة بالمقبض بينما الناس تزاحمه وهو لا يزال يجري على الأرض بخطوات سريعة متعثرة جراء سير الأتوبيس الذي بدأ يزيد من سرعته ... نظر له مذكورنا بعين جافة , رافعا قبضته ليهوي بها على يده قائلا" معلش يا عم الحاج , الأتوبيس للأقوى" ...
هوى بيده على ذراع العجوز بنظرته المذعورة ويده المرتعشة و ......... طاخ, أحس أخونا بألم شنيع يوازي شعور برتقالة في عصارة بشفرات حديدة, أنزل نظره للأسفل ليفاجأ بعصا العجوز تستقر بين رجليه منهية أمله الإنجابي, احولت عيناه وصدرت منه آهة خفيفة تحمل كل ملامح الألم بينما قفز العجوز فوق الركاب قابضا على قميصه وهو يصرخ ناثرا الريالة على وجه المذكور" الأتوبيس لمين يلا؟ ... دانتا راجل خرع" ... فاق من كم الريالة التي أغرقته, ورفع يده إلى عنق العجوز ليبدأ أولى معاركه, لولا تدخل ولاد الحلال لفض الخناقة, وتدخل ولاد الحرام للتقليب فيها ...

خرج من بين الزحام الذي يسد الباب إلى داخل الأتوبيس, وأخذ يتأكد من وجود كل شئ ... الموبايل , المحفظة, الفلوس الفكة ... تحسر بألم حينما تذكر أن عصا العجوز سرقت ما لا يمكن استرداده تاركة إياه شبه حي و .... انتفض فجأة , البطيخة, شقا العمر ... التفت في هلع إلى الباب والزحام الذي يسده, قذف نفسه في فدائية بين الأقدم, راح يزحف ويبحث, حتى وجدها مستقرة في وداعة تحت أحد الكراسي المفرد ... مد يده في لهفة كأم وجدت ابنها بعد غيبة سنين, وتحسس قشرها الأخضر الناعم ... "انت يافندي بتعمل إيه ...البتاعة دي تبعي" ... التفت إلى ذلك الجالس على الكرسي بعين يطق منهما شرار كبوتوجاز نزع منه مصرف الغاز ... لم يأخذ الراجل مع صاحبنا غلوة ليقنعه أنها بطيخته, وتركه راضيا تماما, بصف أسنان مفقود وعين وارمة وخدش في خده أعمق من حفرة البلي في حارتهم ... أخذ البطيخة وبدأ يربت عليها في حنان متوجها إلى وسط السيارة من جديد ...

طالع المكان بعين خبيرة, الزحام شديد كطابور العيش ... لمح أحدهم يهم بالقيام و .... فيوووووووو ... طيران أصبح أمام المقعد مسببا سقوط خمسة أشخاص ودافعا بذلك الشاب الذي كان يهم بالجلوس صارخا " دانتو جيل قليل الحيا صحيح ... متخلوا عندكو دم يا حوش" ... انتفض الشاب من تلك الدفعة ملتفتا إليه بالنظارة وسماعات الإم بي ثري في أذنه حاملا كتابين جامعيين , رمقه بوجه ساخط ثم أشاح مبتعدا ...

استرخى المذكور صاحبنا في مقعده حامدا الله إنه مجرد شاب "ور ور" وليس أحد الشباب اللبش الذي قد يكلفه معركة أخرى قد تضيع فيها البطيخة هذه المرة ... انقبض قلبه بشدة عند هذا المقطع, واحتضن البطيخة أكثر في حنان وخوف , لتبدأ الهواجس ... تذكر أنه سيمر على عكوش بلطجي الحارة في قهوته, والذي قد يسلبه إياها من باب التعذيب, تذكر أنه حتى لو نجا من ذلك وصعد بها إلى البيت, فإن الأولاد سيشاركوه إياها ... احتضنها أكثر وهو يتخيل كيف سيضطر إلى تقسيمها بين 8 أنفار ومعهم زوجته, تذكر كيف سيستهبل العيال ويقذفون بعضهم ببذر البطيخ في مرح دون أن يدركو أن روحه تهوي مع كل لباية بتطير... زاد ضغطه أكثر وأكثر, كـ "جولوم" قابضا على خاتمه وهو يصيح "ماي بريشس" ....

الأفكار تتداعى, الهواجس تمزقه, الضغط يزيد, أسنانه تصطك, عرقه يهطل بغزارة .......... بوووم ... نظر إلى حجره ليطالع أسوأ منظر في حياته (بعد خسارة عصا العجوز) ... لقد انفجرت البطيخة ... وتناثر لحمها في السيارة لتتلقفها أفواه جائعة لطالما تمنت النيل منها, وليتطاير بذرها في الهواء في "سلو موشن" درامي أمام عينيه على شكل "بارتكلز" موجهة ... لم يتحمل أكثر من ذلك, أرجع ظهره إلى الوراء, وشهق شهقته الأخيرة, لتفيض روحه إلى بارئها ...

وهنااااااااااااك ... في آخرالأتوبيس, التفت الرجل المضروب سابقا بعينه الوارمة ... ليفاجأ بوجود بطيخة أخرى متوارية بين الكنبة الأخيرة والعمود الفولاذي ... مغطاة بجريدة ... مفتوحة على الكلمات المتقاطعة ... جريدة صاحبنا المرحوم ...